فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومنهم من اقتصر على اشتمال الإنزال على أصول الديانات المجمع عليها حسبما يفيده على رأي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ} [الرعد: 36] إلى آخره، وتعقب بأنه يأباه التعرض لا تباع أهوائهم وحديث المحو والإثبات وإنه لكل أجل كتاب فإن المجمع عليه لا يتصور فيه الاستتباع والاتباع، وقيل: إن الإشارة إلى إنزال الكتب السالفة على الأنبياء عليهم السلام، والمعنى كما أنزلنا الكتب على من قبلك أنزلنا هذا الكتاب عليك لأن قوله تعالى: {والذين ءاتيناهم الكتاب} [الرعد: 36] يتضمن إنزاله تعالى ذلك وهذا الذي أنزلناه بلسان العرب كما أن اكلتب السابقة بلسان من أنزلت عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ الله إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] وإلى هذا ذهب الإمام وأبو حيان، وقال ابن عطية: المعنى كما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض أنزلناه حكمًا إلى آخره وليته ما قيل، وإلا بلغ الاحتمال الأول مما أشرنا إليه، ونصب: {حُكْمًا} على الحال من منصوب: {نزلناه} وإذا أريد به حاكمًا كان هناك مجاز في النسبة كما لا يخفى، ونصب: {عَرَبِيًّا} على الحال أيضًا أما من ضمير: {أنزلناه} كالحال الأولى فتكون حالا مترادفة أو من المستتر في الأولى فتكون حالًا متداخلة، ويصح أن يكون وصفا لحكما الحال وهو موطئة وهي الاسم الجامد الواقع حالا لوصفه بمشتق وهو الحال في الحقيقة، والأول أولى لأن: {حُكْمًا} مقصود بالحالية هنا والحال الموطئة لا تقصد بالذات.
واختار الطبرسي أن معنى: {حُكْمًا} حكمة كما في قوله تعالى: {الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام: 89] وهو أحد أوجه ذكرها الإمام، ونصبه على الحال أيضًا فلا تغفل.
واستدلت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بكونه منزلًا وذلك لا يليق إلا بالمحدث.
الثاني أنه وصفه بكونه عربيًا والعربي أمر وضعي وما كان كذلك كان محدثًا.
الثالث أنها دلت على أنه إنما كان حكمًا عربيًا لأن الله تعالى جعله كذلك والمجعول محدث.
وأجاب الإمام بأن كل ذلك إنما يدل على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه أي بين المعتزلة والإشاعرة وإلا فالحنابلة على ما اشتهر عنهم قائلون بقدم الكلام اللفظي، وقد أسلفنا في المقدمات كلامًا نفيسًا في مسألة الكلام فارجع إليه ولا يهولنك قعاقع المخالفين لسلف الأمة.
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} التي يدعونك إليها كالصلاة إلى بيت المقدس بعد تحويل القبلة إلى الكعبة وكترك الدعوة إلى الإسلام: {بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} العظيم الشأن الفائض عليك من ذلك الحكم العربي أو العلم بمضمونه: {مَا لَكَ مِنَ الله} من جنابه العزيز جل شأنه والالتفات من التكلم إلى الغيبة وإيراد الاسم الجليل لتربية المهابة: {مِن وَلِىّ} يلى أمرك وينصرك على من يبغيك الغوائل: {وَلاَ وَاقٍ} يقيك من مصارع السوء، وحيث لم يستلزم نفي الناصر على العدو نفي الواقي من نكايته أدخل في المعطوف حرف النفي للتأكيد كقولك: ما لي دينار ولا درهم أو مالك من بأس الله تعالى من ناصر وواق لاتباعك أهواءهم بعدما جاءك من الحق، وأمثال هذه القوارع إنما هي لقطع أطماع الكفرة وتهييج المؤمنين على الثبات في الدين لا للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام بمكان لا يحتاج فيه إلى باعث أو مهيج، ومن هنا قيل: إن الخطاب لغيره صلى الله عليه وسلم، واللام في لئن موطئة و: {مِنْ} الثانية مزيدة و: {مالك} ساد مسد جوابي الشرط والقسم. اهـ.

.قال القاسمي:

{مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: عن الكفر والمعاصي: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}.

.في الآية وجوه من الإعراب:

(الأول): أن {مثل} مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة، وجملة {تجري} مفسرة أو مستأنفة استئنافًا بيانيًا أو حال من ضمير {وعد} أي: وعدها مقدرًا جريان أنهارها. وهذا الوجه سالم من التكلف، مع ما فيه من الإيجاز والإجمال والتفصيل. وقُدَّر الخبر فيه مقدمًا لطول ذيل المبتدأ، أو لئلا يفصل به بينه وبين ما يفسره، أو هو كالمفسر له.
(الثاني): أن خبره {تجري}- على طريقة قولك: صفة زيد أسمر- قيل: هو غير مستقيم معنى؛ لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة، وهي فيها لا في صفتها. مع تأنيث الضمير العائد على المثل حملًا على المعنى.
(الثالث): أن ثمة موصوفًا محذوفًا، أي: مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، وقوله: {وظلها} مبتدأ محذوف الخبر أي: كذلك.
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} لأنه يحصل لهم به من المعاني والدلائل وكشف الشبهات ما لم يحصل لهم من تلك الكتب السالفة. قيل: عنى بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، فإنهم يفرحون بما أنزل من القرآن؛ لما يرون فيه من الشواهد على حقيته التي لا يمترى فيه، ومن المعارف والمزايا الباهرة التي لا تحصى، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة: من الآية 121]: {وَمِنَ الأَحْزَابِ} يعني بقية أهل الكتاب والمشركين: {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} وهو ما يخالف معتقدهم، وجوز أن يراد بالموصول من يفرح به منهم لمجرد تصديقه لما بين يديه وتعظيمه له وإن لم يؤمنوا. وبـ: {الأَحْزَابِ} المشركون، خاصة المنكرين لما فيه من التوحيد. ولذا أمر برد إنكارهم بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو} أي: لا إلى غيره: {وَإِلَيْهِ مَآبِ} أي: مرجعي للجزاء، لا إلى غيره.
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} أي: حاكمًا بالحق، أو حكمة عربية: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} أي: لئن تابعتهم على دين، ما هو إلا أهواء بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج؛ فلا ينصرك ناصر ولا يقيك واق. وهذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب، وأن لا يزلَّ زالٌّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة. وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان. كذا في الكشاف. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}
استئناف ابتدائي يرتبط بقوله: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم} [سورة الرعد: 29].
ذُكر هنا بمناسبة ذكر ضدّه في قوله: {ولعذاب الآخرة أشق} [الرعد: 34].
والمثَل: هنا الصفة العجيبة، قيل: هو حقيقة من معاني المثل، كقوله تعالى: {ولله المثَل الأعلى} [النحل: 60]، وقيل: هو مستعار من المثَل الذي هو الشبيه في حالة عجيبة أطلق على الحالة العجيبة غير الشبيهة لأنها جديرة بالتشبيه بها.
وجملة {تجري من تحتها الأنهار} خبر عن: {مَثَل} باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه، فهي من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين، كما يقال: صفة زيد أسمر.
وجملة: {أكلها دائم} خبر ثان، والأكل بالضم: المأكول، وتقدم.
ودوام الظل كناية عن التفاف الأشجار بحيث لا فراغ بينها تنفذ منه الشمس، كما قال تعالى: {وجنات ألفافًا} [سورة النبأ: 16]، وذلك من محامد الجنات وملاذّها.
وجملة {تلك عقبى الذين اتقوا} مستأنفة.
والإشارة إلى الجنة بصفاتها بحيث صارت كالمشاهدة، والمعنى: تلك هي التي سمعتم أنها عقبى الدار للذين يوفون بعهد الله إلى قوله: {ويدرأون بالحسنة السيّئة إلى قوله فنعم عقبى الدار} [سورة الرعد: 24] هي الجنة التي وعد المتّقون.
وقد علم أن الذين اتقوا هم المؤمنون الصالحون كما تقدم.
وأول مراتب التقوى الإيمان.
وجملة {وعقبى الكافرين النار} مستأنفة للمناسبة بالمضادة.
وهي كالبيان لِجملة: {ولهم سوء الدار}.
{وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} الواو للاستئناف. وهذا استئناف ابتدائي انتقل به إلى فضل لبعض أهل الكتاب في حسن تلقيهم للقرآن بعد الفراغ من ذكر أحوال المشركين من قوله: {كذلك أرسلناك في أمة} [سورة الرعد: 30] الخ، ولذلك جاءت على أسلوبها في التعقيب بجملة: {قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به} [سورة الرعد: 36].
والمناسبة هي أن الذين أرسل إليهم بالقرآن انقسموا في التصديق بالقرآن فِرقًا؛ ففريق آمنوا بالله وهم المؤمنون، وفريق كفروا به وهم مصداق قوله: {وهم يكفرون بالرحمن} [سورة الرعد: 30]، كما تقدم أنه عائد إلى المشركين المفهومين من المقام كما هو مصطلح القرآن.
وهذا فريق آخر أيضًا أهل الكتاب وهو منقسم أيضًا في تلقي القرآن فرقتين: فالفريق الأول صدّقوا بالقرآن وفرحوا به وهم الذين ذُكروا في قوله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} في سورة العقود [83]، وكلهم من النصارى مثل ورقة بن نوفل وكذلك غيره ممن بلغهم القرآن أيام مُقام النبي بمكة قبل أن تبلغهم دعوة النبي فإن اليهود كانوا قد سُرُّوا بنزول القرآن مصدّقًا للتوراة، وكانوا يحسبون دعوة النبي مقصورة على العرب فكان اليهود يستظهرون بالقرآن على المشركين، قال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} [سورة البقرة: 89].
وكان النصارى يستظهرون به على اليهود؛ وفريق لم يثبت لهم الفرحُ بالقرآن وهم معظم اليهود والنصارى البعداء عن مكة وما كفر الفريقان به إلا حين علموا أن دعوة الإسلام عامة.
وبهذا التفسير تظهر بلاغة التعبير عنهم بيفرحون {والذين آتيناهم الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} دون: {يؤمنون}.
وإنما سلكنا هذا الوجه بناءً على أن هذه السورة مكية كان نزولها قبل أن يُسلم عبد الله بن سلام وسَلْمان الفارسي وبعض نصارى نجران وبعض نصارى اليمن، فإن كانت السورة مدنية أو كان هذا من المدني فلا إشْكال.
فالمراد بالذين آتياناهم الكتاب الذين أوتوه إيتاء كاملًا، وهو المجرد عن العصبية لما كانوا عليه وعن الحسد، فهو كقوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} [سورة البقرة: 121].
فالأظهر أن المراد بالأحزاب أحزابُ الذين أوتوا الكتاب، كما جاء في قوله تعالى: {فاختلف الأحزاب من بينهم} في سورة مريم [37]، أي ومن أحزابهم من ينكر بعض القرآن، فاللام عوض عن المضاف إليه.
ولعل هؤلاء هم خبثاؤهم ودُهاتهم الذين توسموا أن القرآن يبطل شرائعهم فأنكروا بعضه، وهو ما فيه من الإيماء إلى ذلك من إبطال أصول عقائدهم مثل عُبودية عيسى عليه السلام بالنسبة للنصارى، ونبوءته بالنسبة لليهود.
وفي التعبير عنهم بالأحزاب إيماء إلى أن هؤلاء هم المتحزبون المتصلبون لقومهم ولما كانوا عليه.
وهكذا كانت حالة اضطراب أهل الكتاب عندما دمغتهم بعثة النبي وأخذ أمر الإسلام يفشو.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلن للفريقين بأنه ما أمر إلا بتوحيد الله كما في الآية الأخرى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} [سورة آل عمران: 64]، فمن فرح بالقرآن فليزدد فرحًا ومن أنكر بعضه فليأخذ بما لا ينكره وهو عدم الإشراك.
وقد كان النصارى يتبرؤون من الشرك ويعُدّون اعتقاد بُنوة عيسى عليه السلام غير شرك.
وهذه الآية من مجاراة الخصم واستنزال طائر نفسه كيلا ينفر من النظر.
وبهذا التفسير يظهر موقع جملة {قل إنما أمرت أن أعبد الله} بعد جملة: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون} وأنها جواب للفريقين.
وأفادت: {إنما} أنه لم يؤمر إلا بأن يعبد الله ولا يشرك به، أي لا بغير ذلك مما عليه المشركون، فهو قصر إضافي دلت عليه القرينة.
ولما كان المأمور به مجموع شيئين: عبادة الله، وعدم الإشراك به في ذلك آل المعنى: أني ما أمرت إلا بتوحيد الله.
ومن بلاغة الجدل القرآني أنه لم يأت بذلك من أول الكلام بل أتى به متدرّجًا فيه فقال: {أن أعبد الله} لأنه لا ينازع في ذلك أحد من أهل الكتاب ولا المشركين، ثم جاء بعده: {ولا أشرك} به لإبطال إشراك المشركين وللتعريض بإبطال إلهية عيسى عليه السلام لأن ادعاء بنوته من الله تعالى يؤول إلى الإشراك.
وجملة: {إليه أدعوا وإليه مآب} بيان لجملة: {إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به}، أي أن أعبده وأن أدعو الناس إلى ذلك، لأنه لما أمر بذلك من قبل الله استفيد أنه مرسل من الله فهو مأمور بالدعوة إليه.
وتقديم المجرور في الموضعين للاختصاص، أي إليه لا إلى غيره أدعُو، أي بهذا القرآن، وإليه لا إلى غيره مئابي، فإن المشركين يرجعون في مهمّهم إلى الأصنام يستنصرونها ويستغيثونها، وليس في قوله هذا ما ينكره أهل الكتاب إذ هو مما كانوا فيه سواء مع الإسلام.